في وقت يعيش المجتمع الموريتاني حراكاً اجتماعياً لمواجهة مخلفات ممارسات «العبودية»، ترتفع أصوات أخرى موازية لتقديم «العبيد» في صورة غير مألوفة داخل مجتمع الفولان الذي يرى أن الاعتزاز بتاريخ أجداده هو سبيل «تحرره».
وأُطلقت مبادرة قبل أشهر قليلة على يد مجموعة من المنحدرين من أسر «العبيد» داخل مجتمع الفولان في موريتانيا لنشر «قيم التعاون والاعتزاز بالماضي» في المجتمع الفولاني.
وتحمل هذه الحملة شعارات ذات دلالة رمزية مثل «نسب بلال... وبلال يجمعنا»، في إشارة واضحة إلى الانتماء لماضي العبودية للصحابي بلال بن رباح.
وتتحدث رئيسة تجمع «نسب بلال» عيساتا دمبا بمنطق الاعتزاز بتاريخ الأجداد داخل السلّم الهرمي لمجتمع الفولان ذي التراتبية الطبقية الحادة والصارمة.
وتقول ديمبا «نحن عبارة عن تجمع شبابي تطوعي، يهدف إلى نشر قيم الحرية والتعاون على مستوى المجموعة التي يقتسم أفرادها التاريخ والطموحات ذاتها، ونسعى إلى الاعتزاز بماضي أجدادنا مهما كان ذلك الماضي».
وتتابع دمبا: «نحن نجسد ذلك من خلال التغني بالأمجاد من دون أي خجل أو أي إحساس بالدونية والنقص».
وتنطلق دمبا مما تسميه واقع الحرية والاستقلالية الذي يتمتع به كل من ينتمي إلى طبقة العبيد السابقين في مجتمع الفولان، حيث لا يخضع أياً كان لسلطة غيره.
تقييم عيساتا دمبا لواقع العبودية وأسبابها في مجتمع الفولان جعل المنتمين إلى «نسب بلال» يعتزون بأصولهم وماضيهم، لأنه «بالعلم والعمل يتحرر الإنسان من عقدة الماضي، وإذا كان البعض قد خضع للعبودية لأسباب مختلفة، فإن ذلك ليس مبررا لكي نعيش اليوم منكسي الرؤوس»، بحسب ما تقول رئيسة التجمع، فتلك حقبة «اتسمت بانتشار الجهل والحروب وغياب الإسلام».
واقع العبودية الذي يعيشه المنحدرون من طبقة الأرقاء في مجتمع الفولان يختلف في تفاصيله الجوهرية عما يعانيه العبيد في المجتمع العربي الموريتاني، وهو ما يظهر من خلال اختلاف خطاب المطالبين بالتحرر لدى المجتمعين.
حمادي جالو، محرر «فوتاميديا»، الذي يعد أول موقع الكتروني يهتم بشؤون الفولان في موريتانيا، يشرح ذلك بالقول: «في مجتمع الفولان يمكن الحديث عن سلطة العبيد في مواقف وحالات عدّة، فتنصيب الملك أو الأمير أو الزعيم يظل ناقصا بمجرد غياب زعيم العبيد عن حضور المراسم، وبالتالي يظل حكمه فاقدا للشرعية، وقد توارث أبناء العبيد تلك القيمة الاعتبارية حتى اليوم، كما أن الانتماء إلى طبقة العبيد يتيح للشخص الحصول على بعض الإكراميات والهبات في مختلف المناسبات الاجتماعية».
ويعتبر جالوا، وهو من طبقة «الاسياد»، أنه ما دام الانتماء إلى طبقة «العبيد» يوفر لصاحبه بعض الامتيازات، فقد بات من مصلحتهم الحفاظ على واقعهم كعبيد، ومن هذا المنطلق لا يمكن الحديث عن واقع العبيد في مجتمع الفلان بمنطق الحديث عن الدونية أو الإهانة، بل إن ثمة بعداً آخر قد يضفي على بعض عائلات العبيد نوعاً من التقدير المشروط، وهي العائلات التي أبلى أجدادها بلاءً حسناً في الحروب القبلية».
ولا يغفل جالو أهمية البعد الديني في الرفع من مكانة بعض عائلات «العبيد» السابقين إلى مرتبة أعلى، حيث ينظر اليوم إلى تلك العائلات بالكثير من التقدير نظراً إلى مكانتها العلمية. وبهذه الصيغة يعتبر جالوا أنه برغم صرامة التقسيم الطبقي في مجتمع الفولان، فإن الباب كان دائما مفتوحا للرقي الاجتماعي المشروط.
ينظم عبد الله انجاي، وهو باحث في تاريخ مجتمع الفولان، مهرجانات شعبية خلال برنامجه الإذاعي ذائع الصيت «حكايات شفوية»، وهو يجوب المناطق التي يكثر فيها الفولان في الجنوب الموريتاني.
ويقدم انجاي تصوره لواقع العبودية اليوم في مجتمعه بالقول: «لا يمكنني التأكيد أن العبودية موجودة في مجتمع الفولان، لأن كل فرد يعيش اليوم بحرية وإرادة كاملتين، ولكن بدون شك، هناك فروق واضحة بين العبيد السابقين والأسياد على مستوى الواقع الاقتصادي لأن العبيد في السابق كانوا فقراء ومهمشين».
لكن انجاي يتحدث عن الاختلاف الكبير في عقلية جيل اليوم بين «أحفاد العبيد» وجيل الأمس، فجيل اليوم متعلم ويعتز بتاريخه.
ويتحدث عبد الله انجاي عن مسألة العبودية لدى الفولان انطلاقا من مسألة الانتماء أو الاعتزاز بالجذور البعيدة، لكونها قضية جوهرية في حياة كل شخص في مجتمع يتنفس التاريخ، وحيث تتحدد المكانة المعنوية للفرد بانتمائه العائلي والقبلي.
ويؤكد عبد الله انجاي أنه يرفض ثقافة العبودية، ويعتقد أن هذه الثقافة يمكن تجاوزها بالتعلم وتجاوز الماضي من أجل المستقبل.
عن «دويتشه فيلله»