الدكتور ادريس الكريني
بين الانتقال والانتقام بعد الثورات ينطرح مفهوم العدالة الانتقالية، ذلك المفهوم الذي يمثل تجاوزاً للمشاكل والكراهية التي سبقت الثورات وتؤمن سلمياً المسار بعدها، يعرض الدكتور إدريس لكريني، أستاذ الحياة السياسية ومدير مجموعة الدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، في هذا التحليل لمفهوم العدالة الانتقالية في مرآة وبموازاة لحظة الثورات العربية الماثلة.
تحيل العدالة الانتقالية إلى التحول والانتقال السياسيين؛ سواء تعلق الأمر بالانتقال من حالة الحرب إلى السّلم؛ أو من أجواء الشمولية والاستبداد إلى الممارسة الديمقراطية؛ فهي وسيلة لتجاوز الإكراهات والمشاكل في مختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. التي عانت منها الدولة والمجتمع.. وآلية فعالة للتخلص من التراكمات السلبية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بالصورة التي تسهم بانتقال متدرج إلى الديمقراطية بناء على أسس متينة؛ توفر شروط التسامح والمصالحة والشرعية والتعددية والاستقرار.. داخل المجتمع؛ بعيدا عن ثقافة الثأر والانتقام.
وعادة ما ترتبط بمرحلة مفصليّة في تاريخ الحياة السياسية للدول؛ ذلك أنها تؤّمن انتقالا مرنا من مرحلة غالبا ما تحيل إلى القمع والاستبداد إلى مرحلة ديمقراطية؛ ترسّخ فيها دولة المؤسسات ويقطع فيها مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
يعدّ الاهتمام بحقوق الإنسان وتعزيزها في شموليتها؛ مدخلا مهما على طريق إرساء دعائم دولة الحق والقانون؛ بالنظر إلى تأثيراته على مختلف المجالات الحيوية الأخرى. فإذا كانت الديمقراطية تتطلب مجموعة من المقومات والشروط؛ فإن طيّ صفحات الماضي القاتمة ومصارحة الذات؛ من خلال آلية العدالة الانتقالية؛ يعد أحد المداخل لتعبيد الطريق نحو إعمال ديمقراطية بنّاءة تحتمل جميع مكونات المجتمع؛ وتضمن وضع حدّ لمختلف الصراعات والنزاعات الداخلية؛ ووضع أسس متينة لدولة الحق والقانون.
تتنوع آليات العدالة الانتقالية
لقد شهت الكثير من الأقطار العربية خلال الأشهر الأخيرة تحولات اجتماعية وسياسية كبرى تباينت في خلفياتها وأشكالها وحدّة مطالبها؛ نتيجة للحراك الاجتماعي الذي عمّ المنطقة؛ الذي رفع مطالب بالقطع مع مظاهر الاستبداد والفساد وترسيخ دولة الحق والقانون؛ وبين خيارات عنيفة بطعم الدماء وأخرى سلمية؛ حيث تم إسقاط أنظمة في عدد من الدول العربية؛ فيما اختارت أخرى بلورة إصلاحات استباقية.
تتنوع آليات العدالة الانتقالية بين إحداث لجان لتقصي الحقائق بصدد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشفها بتفصيل أمام الرأي العام؛ أو بمحاكمة الجناة أمام القضاء المحلي أو الدولي؛ أو عبر تقديم تعويضات مادية (أموال وخدمات اجتماعية وتربوية ونفسية وصحية..) ومعنوية (تقديم اعتذار رسمي للضحايا وحفظ الذاكرة..) وجبر الضرر للضحايا عما لحق بهم من مآس ومعاناة؛ أو بإعمال إصلاحات مؤسساتية تسمح بتعزيز دولة المؤسسات وترسيخ سيادة القانون وتجاوز سلبيات الماضي وإكراهاته وتدبير التنوع المجتمعي بمختلف مظاهره العرقية والإثنية والدينية والثقافية.. بصورة ديمقراطية على أساس العدالة والحرية والمساواة.. أو بالسعي لتحقيق مصالحة بين مختلف الفرقاء السياسيين؛ زيادة على وسيلة أخرى ترتبط بإقامة النصب والمتاحف لحفظ الذاكرة؛ بالإضافة إلى منع المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من تولي مناصب حكومية أو ذات طابع سلطوي داخل مؤسسات الدولة.
وتستند لجان الحقيقة والمصالحة في مرجعيتها إلى مصادر وأسس متنوعة؛ تحدّد في:
- "القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
- أحكام وقرارات المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان.
- الاجتهادات الفقهية لمختلف المقررين والخبراء في مجال حقوق الإنسان.
- خلاصات ونتائج أعمال لجان الحقيقة والمصالحة عبر العالم.
- المقتضيات القانونية الوطنية غير المتعارضة مع القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
- قيم ومبادئ الثقافة الديمقراطية بما هي ثقافة إنسانية.
- القيم ومبادئ حقوق الإنسان المتأصلة في المعتقدات الدينية والثقافة الوطنية والثقافات المحلية.
- الأفكار والآراء والاجتهادات الوطنية المبلورة بين مختلف الفرقاء من ضحايا وحقوقيين وسياسيين حول قضايا السلم والعدالة والانتقال إلى الديمقراطية".
وفي ضوء هذه المعطيات؛ يمكن القول إن لجان الحقيقة والمصالحة التي تشكل العمود الفقري للعدالة الانتقالية هي هيئات مستقلة ومعترف بها من قبل الدولة وتشتغل عادة لفترة زمنية محددة وتتشكل من هيئات غير قضائية؛ وعادة ما يرتبط إحداثها بمرحلة انتقالية تشهدها الدولة؛ وتنصب مهامها على فحص ومقاربة ملفات انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان حدثت في الماضي؛ بسبل مختلفة تتراوح بين تعويض وتأهيل الضحايا وكشف حقيقة الأحداث وأسماء الجناة وتعريضهم للمساءلة والمحاكمة..؛ وعادة ما تنهي عملها بتقرير ختامي يتضمن عددا من الخلاصات والتوصيات الكفيلة بإسماع أصوات الضحايا وبتجاوز ومنع ارتكاب هذه الممارسات في المستقبل؛ وبتحقيق مصالحة وطنية كفيلة بتحقيق تحول بناء نحو الديمقراطية.
ثلاث فرضيات أساسية للعدالة الانتقالية
إن أهمية وضرورة إعمال مدخل العدالة الانتقالية في المنطقة العربية؛ تحيلان إلى ثلاث فرضيات أساسية ومتصلة فيما بينها؛ أولها أن مجرد القبول بإعمال آلية العدالة الانتقالية من طرف الدولة ومختلف مكونات المجتمع من أحزاب سياسية ومجتمع مدني ونخب مختلفة؛ يعد مؤشراً إيجابيا يدعم الانتقال السّلس والمرن من مرحلة إلى أخرى أفضل بأقل تكلفة.
وثانيها؛ أن كلّ تحول سياسي في ظل المرحلة التي تعيشها المنطقة العربية يظل هشّا ومرشحا للتراجع أو إعادة إنتاج الاستبداد؛ طالما لم يتم بناء على مصارحة الذات واعتماد آليات بنّاءة تضمن انتقالا سلسا يرتكز إلى تجارب إنسانية رائدة في هذا الشأن؛ بصورة بعيدة عن منطق الانتقام والإقصاء.
وثالثها يقضي بأن اعتماد العدالة الانتقالية بالمنطقة العربية في ظل الاحتجاجات والحراك والثورات التي تشهدها المنطقة؛ يشكّل مدخلا للاستفادة من حجم التضحيات المبذولة وتوجيه الأحداث بما يدعم مشاركة الجميع في بناء أسس دولة الحق والقانون؛ ويقطع مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومظاهر الاستبداد.
وفي ظل التحولات العربية المتسارعة؛ التي يصعب التكهّن بسهولة بمآلها وحصيلتها؛ تزداد أهمية العدالة الانتقالية في المنطقة خلال هذه المرحلة الحاسمة بالذات بالنظر لأهميتها في تعبيد الطريق نحو الديمقراطية بأقلّ تكلفة بعيدا عن ثقافة الثأر والانتقام؛ ولقدرتها على طيّ صفحات قاتمة من تاريخ الدول؛ وتحصين المجتمعات من تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتجارب القاسية للاستبداد.
ذلك أن ما تشهده مختلف الأقطار العربية من ثورات واحتجاجات عارمة؛ يبرز حجم المشاكل الخطيرة التي تراكمت على امتداد سنوات عدة؛ نتيجة للاستبداد والفساد وغياب الحريات؛ وهشاشة مؤسسة القضاء وعدم القدرة على تدبير الاختلاف المجتمعي في أبعاده العرقية والإثنية والدينية.. بصورة ديمقراطية؛ وهي عوامل تجعل من أي مبادرات إصلاحية - في غياب مصالحة وطنية شاملة تستمد مقوماتها من أسس العدالة الانتقالية كما هي متعارف عليها عالميا - أمرا نسبيا وهشّا؛ بل وتجعل هذه الأقطار عرضة لتكرار الاستبداد ولمزيد من الأزمات الاجتماعية والسياسية؛ ويجعل الباب مفتوحا أمام سيادة ثقافة الانتقام وانتهاك حقوق الإنسان بمختلف المظاهر والأشكال.
وإذا استحضرنا أن الرهانات الكبرى بصدد التحولات التي تشهدها المنطقة في الفترة الحالية؛ تظل مشروطة باستثمار التضحيات والجهود المبذولة وتوجيه الأحداث خدمة لقضايا الدولة والمجتمع داخليا وخارجيا؛ على طريق بناء أسس تقطع مع الاستبداد والفساد وخرق حقوق الإنسان؛ فإن طيّ صفحات الماضي ومصارحة الذات؛ من خلال آلية العدالة الانتقالية؛ يعدّ مدخلا فعّالا لوضع حدّ لمختلف الصراعات والنزاعات الداخلية؛ وبناء أسس متينة تدعم دولة الحق والقانون.
سبل العدالة الانتقالية المطبقة حول العالم
لقد تزايد خلال العقدين الأخيرين لجوء كثير من الدول التي ترسخت لديها القناعة ببناء أسس وطيدة للانتقال الديمقراطي؛ إلى نهج مداخل وسبل مختلفة تندرج ضمن العدالة الانتقالية تسمح بالحسم مع تركات الماضي والتخلص من الاستبداد؛ وتفتح آفاقا ديمقراطية واعدة أمام الشعوب؛ وهو ما سمح بمراكمة تجارب وممارسات أسهمت في تطوير هذه الآلية؛ وعزز من فرص اللجوء إليها من قبل عدد من الدول الطامحة للتغيير والإصلاح.
وفي هذا السياق؛ برزت تجارب متباينة في أهميتها على امتداد مناطق مختلفة من العالم؛ من بينها:
في أمريكا اللاتينية: الهيئة الوطنية حول اختفاءات الأشخاص بالأرجنتين (سنة 1983)؛ والهيئة الوطنية حول الحقيقة والمصالحة بالشيلي (سنة 1990)؛ ولجنة بيان انتهاكات حقوق الإنسان وأعمال العنف.. بغواتيمالا (سنة 1994) وهيئة الحقيقة والمصالحة بالبيرو (سنة 2001).
في إفريقيا: مفوضية جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة بجنوب إفريقيا (سنة 1994)؛ وهيئة الحقيقة والمصالحة بسيراليون (سنة 2000) وهيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب (سنة 2004).
في أوربا الشرقية: التجربة البولونية (لسنة 1997)؛ وهيئة الحقيقة والمصالحة بصربيا (سنة 2004).
في آسيا: هيئة التلقي والحقيقة والمصالحة بتيمور الشرقية (سنة 2002).
وتقدّم هذه التجارب مجتمعة عددا من الدروس والعبر على مستوى دورها في دعم أسس الانتقال نحول الديمقراطية وتعزيز الاستقرار داخل المجتمعات.
إن لجوء هذه الدول وغيرها إلى آلية العدالة الانتقالية؛ يجد أساسه في مجموعة من الاعتبارات؛ ذلك أن هذا الأسلوب يسمح بتعزيز أسس الديمقراطية وترسيخ مبدأ المحاسبة والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب والاستفادة من أخطاء الماضي لبناء مستقبل واعد محصن ضد هذه الانتهاكات وتكرار الاستبداد بمختلف أشكاله ومظاهره.
وبرغم وجود مبادئ كونية للعدالة الانتقالية؛ فإن تطبيقها يخضع في كثير من الحالات لظروف وخصوصيات الدول وطبيعة الصراعات والمشاكل القائمة فيها.
وإذا كان المغرب قد عرف تجربة متميزة في هذا المجال من خلال هيئة المصالحة والإنصاف سنة 2004 التي راكمت مجهودات كبيرة على مستوى تعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإعادة الاعتبار إليهم؛ فإن جزءا مهما من توصياتها الهامة التي تعد مدخلا لتحصين الأجيال القادمة من تكرار التجربة القاسية؛ لم يتم تفعيله وتكريسه إلا مع صدور دستور 2011 وفي غمرة الحراك المجتمعي الذي انطلق مع ميلاد حركة 20 فبراير.
مصدر الدراسة
معهد العربية للدراسات والتدريب