قدمت فرق المعارضة الأربعة مجتمعة بمجلس النواب (التجمع الوطني للأحرار، الأصالة والمعاصرة، الاتحاد الاشتراكي، الاتحاد الدستوري) طعنا عاجلا إلى المجلس الدستوري في حق مقترح قانون يقضي بتغيير المادة 139 من قانون المسطرة الجنائية.
وأضافت الفرق في مذكرتها أن هذا المقترح الذي صودق عليه بتاريخ 12 فبراير 2013 والذي أحيل على مجلس المستشارين الذي صادق بدوره على نفس القانون بدون تعديل بتاريخ 09 يوليوز 2013، يعد مخالفا لعدد من بنود الدستور وبخاصة الفصول 110 و 117 و118 و119و120 و123.
أولا: اعتبرت الفرق المعارضة أن خرق هذا المقترح لمقتضيات الفصل 110 من الدستور الذي ينص على "لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون". و"يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها." تكمن في أن القانون المطعون فيه ينص في فحواه على عدة حالات مخالفة للعدالة المنصوص عليها في الفصل الدستوري، إذ من العدالة أن يكون هناك نوع من التوازن بين طرفي الدعوى في الوسائل والإمكانيات، وأنه من الضروري التأكيد على أن الاتجاه الحديث اليوم إنما يأخذ قواعد المسطرة الجنائية نحو ما أصبح يصطلح عليه بمبدأ "التوازن l'équilibre "، بين تيار البراءة وتيار الإدانة، بين الاتهام و الدفاع، بين حقوق المجتمع وحقوق المقدم إلى العدالة، وبصفة عامة بين النظام التفتيشي والنظام الاتهامي.
ثانيا: خرق مقتضيات المادة 117 من الدستور التي تتحدث على أن "يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون". حيث إن هذا القانون المطعون فيه ينم عن مساس خطير بحقوق الأشخاص، ذلك لأن القرار يتضمن مساسا بالحقوق الأصلية للمواطنين يجب أن يكون قرارا معللا ومؤسسا بشكل قانوني وواقعي، كما ينبغي أن يبلغ إلى الشخص بكل حيثياته ومستنداته، بل إن الإعلام هنا وفضلا عن كونه يتجلى كحق بديهي للمواطن، فهو يشكل بالأساس اللبنة الأولى التي سينطلق منها حقه في الدفاع عن نفسه، وإعلامه بكل المعطيات سيجعله أكثر ثقة في العدالة لكونه مطلعا على حيثيات ملفه مما يوفر له نوعا من الشعور بالأمن القضائي. غير أنه وعلى خلاف ذلك يدفع القانون المطعون فيه إلى تكريس قاعدة غير دستورية تحرم المواطن من الإطلاع على ملفه، الأمر الذي سيجرده من القدرة على مراقبة مبررات ومستندات حرمانه من حريته.
ثالثا: خرق مقتضيات الفصل 118 من الدستور الذي يتحدث على "حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون." وأن " كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة." حيث أن هذا القانون المصادق عليه يعد إخلالا كبيرا بالمادة 118 من الدستور، بحيث إن التقاضي مبني بالأساس على تبادل المعلومة والوسائل ومناقشتها من وجهتي نظر مختلفة، ثم يصدر القاضي حكما يقضي بالحسم في الخلاف حول هذه المعلومة، أي الجريمة، وحول الوسائل المستند عليها، ولأن قاضي التحقيق بصفته قاض يصدر أوامره القابلة للطعن أمام الغرفة الجنحية، إضافة إلى أنه ملزم قانونيا ومهنيا ليس فقط بالبحث والتحقيق من أجل التأسيس لاتهام مواطن ولكن كذلك من أجل إبراز حجج براءته، علما أن هذا الدور تلزم به كذلك النيابة العامة أخلاقيا وقانونيا، غير أنه لا يمكن القبول بهذا العمل موضوعيا إلا إذا استهدف الوصول إلى الحقيقة الواقعية التي تتحول إلى حقيقة قانونية بمقتضى حكم.
كما أنه من المفترض أن يقوم الشخص بالدفاع عن نفسه، لكونه هو الأصل والمحامي هو المؤازر، وإذا كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فكيف يمكن للشخص أن يحكم على نفسه وعلى أفعاله قبل أن يمارس دفاعه في غياب أي إلمام بمعطيات الملف.
وبالتالي فمهمة الدفاع تبتدئ في أول لحظة عندما يقف فيها الشخص أمام قضاء التحقيق، أو لنقل أمام سلطة الاتهام بشكل عام، ومهمة الدفاع تكمن في شرح وتوضيح معطيات الملف للمتقاضي والوسائل المواجه بها، إضافة إلى تصور عملي لممارسة حقه في الدفاع عن حقه، هذا الحق الذي لا يعترف سوى للمواطن بامتلاك سلطة تفويضه للمحامي أو من يؤازره. كما يجب تعزيز دور الدفاع باعتباره طرفا إيجابيا ولا غنى عنه لمواجهة إشكالية كشف الحقيقة، فالاتهام ليس عدوا للدفاع بل يجب أن يشارك معه من أجل إثبات الحقيقة لضمان عدالة فعالة.
رابعا: خرق الفصل 119 من الدستور الذي "يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به." وبالتالي فإن أهم ما نص عليه الفصل 119 من الدستور هو التأكيد على مبدأ قرينة البراءة، وقرينة البراءة تقتضي الحد من استعمال الشخص لبعض حقوقه استثنائيا وفي إطار مقيد جدا حماية للحقوق والحريات. ويبقى الأصل هو حق المواطن في إعمال جميع حقوقه ولا يمكن الحد منها إلا إذا كان ذلك يتضمن ما يمس بحقوق الغير، علما أنه لا يجوز أن تكون الوضعية مبنية على مجرد احتمال ولكن على اليقين، فوضع المتهم رهن الاعتقال يعتبر وبلا جدال حالة استثنائية، أما المبدأ الأساس فيكمن في حماية حق المواطن في ممارسة حريته، ومن ثمة فإن حرمان الشخص من الإطلاع على ملفه بشكل مطلق، إنما يكرس موقفا شاذا يجعل من افتراض الإدانة بارتكاب الأفعال أصلا، مع أن المنطق السليم يقتضي اعتبار الشخص بريء لكونه لم يلم بعد بما ينبغي أن يطلع عليه، ومن ثم لا يجوز منطقيا وقانونيا حرمانه من هذا الحق الذي سيسمح له بتكوين فكرة واضحة حول ملفه دون خوف عليه أو خوف منه، أما القول بخلاف ذلك فهو إدانة واضحة له حتى قبل أن تدينه المحكمة، بل وقبل أن يعمد إلى التعبير عن تصوره وإبداء موقفه أمام القضاء. إن القانون المطعون فيه يعتبر إخلالا بالفصل الدستوري المكرس لحق المواطن في الدفاع عن نفسه، إذ لا يمكن للمواطن ولا للمحامي أن يواجه وسائل الإثبات إلا عند العلم بها وبجزئياتها، وإلا أصبح المحامي والمتقاضي مجرد متفرجين محرومين من حقوق دفاعهما.
خامسا: خرق مقتضيات المادة 120 من الدستور التي تقول بأن "لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول." وان " حقوق الدفاع مضمونة أمام جميع المحاكم." وبالتالي فإن من أهم شروط المحاكمة العادلة هو التوازن في الوسائل "principe de l’égalité des armes " وأهم هذه الوسائل هي المعلومة التي رجحتها سلطة الإتهام لتكون فعلا قابلة لتوجيه الإتهام وهي معلومة عن فعل معين تثبتها بمعطيات مادية وتصرفات تنسب إلى المتهم وهو ما يستخلص به ذلك الفعل المستوجب للعقوبة .
غير أن قيام سلطة الإتهام بتوجيه هذا الإتهام هو تقدير وهذا التقدير يستند على سلطة التكييف الذي يحال على سلطة قضائية تبت في مدى احترام سلطات ألغتها للقانون أولا، ثم مدى قيام الفعل ووجوده ثم ثالثا مدى نسبته إلى الشخص الماثل أمام القضاء وحدود مسؤوليته ولأن المحاكمة العادلة تقوم أساسا على مبدأ حماية حقوق المتهم فإنه كان من الأجدى أن نضع بين يدي هذا المتهم جميع الوسائل للدفاع عن نفسه وأولها الاطلاع على المعلومة ومستنداته وذلك في أقرب الآجال حتى يستطيع أن يتحرك بسرعة لدحض التهم الموجهة إليه وحماية حقوقه، في حين أن هذا الفصل من خلال منع المتهم من الاطلاع على محضره أو تأخير هذا الاطلاع يعد مساسا بحقه في الدفاع عن نفسه بل إن اعتقاله يعتبر بداية لتنفيذ عقوبة لكون العقوبة النهائية تخصم منها مدة الاعتقال الاحتياطي، وإنه والحالة هذه فإن المحاكمة العادلة ستغيب ونصبح أمام محاكمة سلطة الاتهام.
سادسا: خرق الفصل 23 من الدستور الذي يقول بأنه " لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته،إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون."وأن "الاعتقال التعسفي أو السري والاختفاء القسري من أخطر الجرائم، وتعرض مقترفيها لأقسى العقوبات."
وان "يجب إخبار كل شخص تم اعتقاله، على الفور وبكيفية يفهمها بدواعي اعتقاله وبحقوقه، ومن بينها حقه في التزام الصمت. ويحق له الاستفادة، في أقرب وقت ممكن، من مساعدة قانونية، ومن إمكانية الاتصال بأقربائه، طبقا للقانون."
"قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان."
"يتمتع كل شخص معتقل بحقوق أساسية، وبظروف اعتقال إنسانية. ويمكنه أن يستفيد من برامج للتكوين وإعادة الإدماج."
"يحظر كل تحريض على العنصرية أو الكراهية أو العنف."
"يعاقب القانون على جريمة الإبادة وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة والممنهجة لحقوق الإنسان."
وبالتالي فالفصل 23 من الدستور ينص على مجموعة من الضمانات والحقوق حماية لسلامته البدنية والجسدية وكذلك حماية لحقوقه عند امتثاله لقرار يمس حريته الخاصة، إذ في فقرته الثالثة ينص على وجوب إخبار كل شخص تم اعتقاله على الفور، وبكيفية يفهمها، بدواعي إعتقاله.
إن الإخبار الذي ينص عليه الفصل 23 من الدستور يتناقض وما ينص عليه القانون المطعون فيه الذي يعطي لقاضي التحقيق الحق في عدم تمكين المواطن من الملف إلا قبل عشرة أيام من الاستنطاق التفصيلي علما أن قاضي التحقيق هو الذي يملك السلطة المطلقة لتحديد تاريخ القيام بإجراءات هذا الاستنطاق.
ومن غير المعقول أن يظل المواطن ينتظر شهورا أن يعلم بدواعي اعتقاله، علما أنه يجب ربط كلمة الدواعي التي نص عليها الفصل الدستوري بمبدأ قرينة البراءة وربطها بمبدأ حق الدفاع، مما يجعل مصطلح الدواعي ليس هي الفصول القانونية موضوع المتابعة ولكن بالأساس هي التفاصيل التي تسمح بشعوره بأمنه القضائي.