الكثير من دول العالم الثالث تطالب بحق المغايرة والإختلاف وحق المعرفة ودول الغرب ترفض وتفرض شعارا مغشوشا يرسخ التبعية
النتيجة : إنفجار حرب العصابات في كثير من بقع العالم
* إن الأصولية الإسلامية هي جزء منا وفينا ...
* لأن المشاكل لا نصنعها، ولكن نجد أنفسنا فيها ...
من المتعارف عليه، أن دول الغرب اختارت الأخلاق المالية والمسيحية كدين والمسلمون اختاروا الإسلام دين المسؤولية. ومن ثمة أصبحت علاقة المسيحية بالمسيحيين علاقة مبنية على تناقضات خارجية، فإذا أخذنا على سبيل المثال الإنجيل، نجد أنه حرر بعدة لغات، بدلا من لغة واحدة، وبالتالي نجد تفاسير وتعابير متناقضة. في حين نجد القرآن الحكيم تجاوز كل اللهجات وكتب بلغة واحدة، هي اللغة العربية، والتي أصبحت لغة القرآن. ونجد المسيحية إختارت العقلانية، في حين أن الدين المسيحي لا يقوم على عقل بل على العاطفة، وهذا تناقض خارجي آخر، يمس الثوابت المسيحية.
وإذا كان الإسلام يقوم على أسس سياسية، بخلاف المسيحية فلا علاقة لها بالسياسة ذلك، أن لقاء السياسة بالمسيحية كما تؤكد الكثير من المراجع التاريخية، هو لقاء مفتعل، لقاء مصنوع ومحبوك بين الكنيسة والإمبراطورية القسطنطينية. فالمسيح عيسى عليه السلام لم يكن سياسيا. لكن الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. أسس دولة منظمة، عمرت حتى الآن حوالي ألف وأربعمائة وخمسين سنة 1450. وقاد ص الغزوات، وأنشأ المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ...
فالفرق بين الديانتين واضح. فإذا كانت العلاقة التي تربط المسيحية بالمسيحيين علاقة قائمة على تناقضات خارجية، كما رأينا في الفقرة السابقة، فعلاقة الإسلام بالمسلمين تختلف كثيرا عن علاقة المسيح عيسى عليه السلام بالمسيحيين، إن الفرق بين مضمون الحضارة الإسلامية والمسيحية، فرق واضح وضوح النهار. ومع ذلك فإن النظام العالمي الغربي، رفض لمدة قرون ولا زال الاعتراف بالاختلاف الموجود، وأصر إصرارا عنيدا في رفضه، ومنع المسلمين من حقهم في مغايرة الغرب حتى اليوم وكتب التاريخ تزخر بأمثلة حية، وسلوكات غنية في هذا الإتجاه، وحتى لا نذهب بعيدا، سنسوق مثالنا من شقيقتنا الجزائر. فمن المعلوم أن الكثير من الدول الغربية، التي فرضت إستعمارها بقوة الحديد والنار، على الكثير من الأقطار العربية والإسلامية، في أعقاب الحربين العالميتين، وضعت مخططها الإستعماري لترسخ وجودها على ركائز ثلاث:
تحطيم الذاكرة – 2- مسخ وتمييع التاريخ- 3- تشريد الفكر الإسلامي...
ذلك أن الأمة لا يمكنها أن تنهض إذا فقدت ذاكرتها. لأن الذاكرة هي التي تخلق قوة الشخص. والتاريخ رافد أساسي لتغذية الذاكرة، والفكر هو الأداة الأساس لتقوية العقيدة.
وبعد تحديد المخطط الاستعماري، يمكن إدراج تجربة فرنسا المستعمرة للقطر الجزائري الشقيق، حيث منعت بالقوة، بكل أساليب العنف الوحشي، الشعب الجزائري المسلم من حق مغايرة فرنسا المستعمرة في معتقداتها الدينية. ولم يتردد المستعمر الفرنسي من فرض برامج تعليمية باللغة الفرنسية، مع تحريم تعلم اللغة العربية، مساهمة في تشويه الهوية الجزائرية، كما حاول المستعمر عبثا تعويض النموذج الإسلامي بالأسلوب المسيحي... لكن التجربة الفرنسية الإستعمارية فشلت فشلا ذريعا، وأعطت نتائج عكسية، لم تكن متوقعة لدى خبراء الاستعمار، وفضحت جهلهم العميق بخبايا الإنسان المسلم...
وفي هذا الصدد اسمحوا لي هنا أن أفتح قوسين عريضين، لأوضح كمسلم متمرس في عقده الثامن، بأن الأصولية الإسلامية هي جزء منا وفينا، ومن واقعنا اليومي، تلازمنا منذ خمسة عشر قرنا. وليس كما يظن البعض مجرد فكرة خيالية. فالمشاكل لا نصنعها، ولكن نجد أنفسنا فيها، وفي خضمها، فإما أن نتعامل معها بأسلوب العنف. (مادام العنف لا يولد إلا العنف، مهما تعددت نعوته الإرهابية)، وفي مثل هذه الحالة، لا بد من تعطيل الفكر واللجوء إلى كل قوة متاحة. وتنتهي المعركة إلى منتصر ومهزوم، وهكذا علمنا التاريخ. وتؤكد الكثير من المراجع بأن التيار الأصولي معطى موضوعي، وواقعي له جذور واقعية، لا يمكن إلغاؤه بسهولة كما يتصور النظام العالمي الغربي، بمجرد إلصاق مجموعة من النعوث الإرهابية. لأنه جزء لا يتجزأ من ذاكرة شعوبنا... وإذا كان هذا الإستنتاج صحيحا، فلا خيار أمام الحضارة الأوروبية إلا أن تحترم كل ما جاء في دساتيرها، وتصريحاتها، وتعهداتها الدولية وتعترف للشعوب بحق المغايرة وحق المعرفة، ولا تسارع إلى هتك تعهداتها قبل غيرها...
إن النظام العالمي الغربي اختار بكل حرية الأخلاق المالية قبل كل شيء. لكل التجربة السوفياتية تغاير التجربة الأوروبية. فهي اختارت العدالة الاجتماعية، وفي الرتبة الثانية الأخلاق المالية. ولكن الغريب في الأمر هو أن النظام الغربي العالمي يرفض للمسلمين حق التواجد، وحق مغايرة حضارته، بل يفرض على المسلمين حتى أسلوب العيش، في الحياة... ويعتبر مصلحة أمريكا ومستقبلها فوق كل اعتبارات, وهذا السلوك يتنافى ويلغي كل مدلول للديمقراطية وحقوق الإنسان...
عجيب أمر هذا النظام العالمي الغربي، فهو يجهل أو يتجاهل، بأن شعوب العالم النامي تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، وتكون عملاقا عالميا ضخم الإمكانيات، ويكون قوة دولية، وتشكل بدورها نقط تقل هائلة في التوازن العالمي الراهن، سواء على مستوى رصيدها الاحتياطي من المواد الأولية، أو من ناحية قواها الديمقراطية، أو من ناحية نضجها الثوري، وكذا من حيث قدرتها الإستراتيجية والتي تؤهلها للمنع والعطاء... ومع ذلك يصر الغرب على عدم إدخال هذه المعطيات الأساسية في حساباته وعلاقاته الدولية؟
فدول الغرب، على ما يظهر، مازالت متمسكة بالشعار الذي رفعته، وهي في نشوة الفرح بانتصاراتها الصناعية، عندما صرحت، بروح من التعالي والتباهي و الاحتقار، وإهانة لكل ما له علاقة بالدين: "الشرق شرق، والغرب غرب". إن هذا الشعار المغشوش، الذي رفعه الغرب، ليوهم قيادات بعض الشعوب، بأن كل تقدم أو نمو اقتصادي، لا يمكنه أن يتم إلا من خلال الرساميل الغربية ... لكن عندما نتساءل: "من يتوقف بصورة حيوية وملحة على الآخر؟". نجد أن الدورة الدموية للتكنولوجيا الحديثة توجد تحت أقدام شعوبنا النامية؟ أليست آبارنا، ومناجمنا الغنية، وأرصدتنا المالية الضخمة المتراكمة في أبناك الغرب، هي التي تغذي استمرارية وتطور هذه النهضة الصناعية؟ فعندما تغير الشروط المفروضة بأوضاع مريحة وعادلة، حينها ستنقلب الموازين وتتغير المعطيات في اتجاه إيجابي...
إن بعض حسابات الغرب الضيقة تتوهم بأن نجاحها من خلال ترويج اختراعاتها التقنية في أسواق الدول النامية، سيمكنها من فرض هيمنتها، ونفوذها ومعاييرها للتحكم أكثر في خيرات هذه الشعوب، والعمل على إقحامها في فخ قروض المنظمات المالية العالمية، لسجنها في تبعية مطلقة، يصعب الخروج من مداراتها الجهنمية اللامتناهية.
أما مصير الشعوب التي رفضت الدخول في مدار شروط الغرب، وفضلت التمسك بحرية قراراتها، واختياراتها الوطنية، الرامية إلى الانخراط في عالم التكنولوجية، ومعرفة أسرارها، اعتمادا على ما تتوفر عليه من أطر ووسائل، فإن حسابات الغرب لها بالمرصاد، فلن تتردد في إتهامها بأخطر التهم، ومحاصرتها من كل الجهات قبل الشروع في إبادة شعوبها، وما تعرض له شعبنا المسلم في العراق الشقيق من مآسي وحشية مازالت حية تحت أبصارنا. فالغرب لتحقيق أغراضه الدنيئة في المنطقة، لم يتردد في استعمال كل الأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليا ليدمر المعالم والبيوت، ويبيد الشيوخ والأطفال، والنساء ... لا لذنب اقترفوه إلا كون الأمة العراقية تمسكت بحقها في المعرفة وكشف أسرار الصناعة الحديثة. وهذا السلوك الوحشي يؤكد لنا حقيقة تابثة وهي أن دول الغرب تناصبنا العداء، منذ قرون، لا لما نحن عليه اليوم، بل لما نستطيع أن نصبح عليه غدا. (عندما تتبدل الشروط، وتتفتح العقول.)...
وفي تقديري، فإن المعرفة المفروضة اليوم على أمة الإسلام في العالم، بعد أن ملكهم الله، أغلبية الخيرات الطبيعية في العالم، وبعد تزايد الأطماع العالمية، كل هذه الإشارات المهددة، تفرض على أمتنا الإسلامية أن تعمل بجدية ومسؤولية لتحصين خيراتها، وذلك بإعطاء أسبقية أسبقياتها لاستثماراتها في الطاقة البشرية وللمعرفة عامة، ومعرفة أسرار التقنولوجية الجديدة. وهذا متوقف على مدى قدرتنا على فرض مراجعة وتغيير الكثير من المساطير المتحكمة الآن في علاقتنا التجارية مع الغرب، حتى نتمكن من تحضير الشروط الموضوعية والذاتية للدخول من الباب الواسع لعالم التقنية الحديثة...
فالمطلوب منا = لتعويض كل الفرص الضائعة منا = أن نوقف بيع موادنا الأولية، والمطلوبة في السوق العالمية مقابل نقود ولكن مقابل المعرفة. بمعنى أن نحول جزء كبيرا من مبيعاتنا لتكوين كمية هائلة من الأطر التقنية العليا المتنوعة الاختصاص، ونخصص شطرا من هذه المبيعات لتغطية تكاليف بناء شبكة من المعاهد العليا للتعليم التقني في مختلف تخصصاته المتفرعة والمتنوعة . ذلك أن الأطر الوطنية المتخرجة من هذه المعاهد العليا، هي التي سنعمل على إرساء الأسس المادية لانطلاق نهضتنا الصناعية الحديثة.
ومن خلال هذه الخطة الوقائية للخيرات ستتمكن أمة الإسلام من حماية شعوبها من الحاجة والفقر، عندما تنضب الآبار والمناجم، وتتوقف على الإنتاج في يوم من الأيام... والوقاية في مثل هذه الحالات التي ستمس مصير الشعوب أفضل من العلاج والبكاء بعد فوات الأوان...
وبعد، ومع ذلك وعلى رغم من سلسلة المناورات والمؤامرات المترادفة طيلة قورن، قصد إلغاء المطالبة بحق المغايرة، كحق شرعي وحق المعرفي، ها هو ذا الإسلام، لازال موجودا قائما في كثير من مناطق العالم، يحتل أخطر النقط الجغرافية، وأخطر الخيرات الطبيعية والإستراتيجية، ولم يعد الإسلام مجرد اسم في التاريخ كما يحلو للبعض أن يروج، بل ظل منتصبا، صامدا وسط الأعاصير التاريخية، ويرجع الفضل كل الفضل لصمود الحضارة الإسلامية للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم. ذلك أن الرسالة المحمدية نجحت في خلق تطورات نموذجية في قلب كل مسلم مسلم. فالعبادات التي تمثل أسس الحضارة الإسلامية وتكتسي في مجملها صوت ضمير مشترك لدى المسلمين. وهذا بالذات ما يخوف النظام الغربي العالمي، فهو لا يتخوف من المسلمين في وضعهم الحالي، ولا من قياداتهم الحاكمة، لأسباب يعرفها الغرب أحسن منا، وهي جد متنوعة، ولكنه يخاف من روح الإسلام وحضارته، ومن القيم الرفيعة التي يقوم على أساسها الإسلام... لأنهم يدركون جيدا بأن هذه القيم قادرة وقابلة للانبعاث كلما توفرت لها شروط موضوعية وذاتية أفضل في حق المعرفة وحق المغايرة...
عبد الغني برادة
ا