قبل أسبوع نشرت نيويورك تايمز خريطة لشرق أوسط جديد تظهر تقسيم خمس دول هي : العراق وسوريا والسعودية واليمن وليبيا إلى أربعة عشر دولة . وراجت أخبار كثيرة تقول أن الخريطة المنشورة هي تسريب لمخطط أمريكي لتفتيت المفتت وتمزيق الممزق من دول العربية والإسلامية بعد استعمارية ، دول سايس بيكو، مستغلة بذلك كل التناقضات العرقية والمذهبية والطائفية في هذه الدول .
لقد سعت إسرائيل وجهات غربية عديدة منذ حرب أكتوبر 1973بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة ثانية إلى اقناع الإدارة الأمريكية بأهمية وضرورة سايس بيكو ثانية إلا أن هذه الإدارة و لاعتبارات جيواستراتيجية ارتبطت بالحرب الباردة مع المعسكر السوفياتي ظلت غير متحمسة لهذا الأمر حتى أحداث 11شتنبر 2001. و بعد حرب الخليج الثالثة واستعمار العراق بدأت الترتيبات العملية لبناء شرق أوسط كبير أضافت إليها كونداليسا رايس لمست الفوضى البناءة بعد الضربة القاسية التي تعرضت لها الآلة العسكرية الإسرائيلية في كبريائها بعد حرب خاسرة ضد حزب الله في مستهل صيف 2006.
لكن يبقى السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه علينا بكل الحاحية هو هل هذه الدول الخمسة هي وحدها المعنية بمخطط التقسيم النيواستعماري؟. بمعنى هل مصر والسودان والمغرب والجزائر وموريتانيا غير معنيين بهذا المخطط ؟. أليس هناك مخطط لتقسيم السودان إلى ثلاث أو أربع دول جديدة وتقسيم مصر إلى دولتين والأردن مرشح إلى اعادة الترتيب في أفق تصفية نهائية للقضية الفليسطينية ومخطط لاثارة النعرات العرقية والجهوية والتوترات الطائفية في المغرب والجزائر وموريتانيا ؟
هذا ما كشفه عاموس يادلين رئيس الاستخبارات الحربية الإسرائيلية السابق فى محاضرة ألقاها بمعهد دراسات أبحاث الأمن القومى التابع لجامعة تل أبيب الإسرائيلى الذى يرأسه حاليا ، ونقلت تفاصيلها القناتان السابعة والعاشرة الإسرائيليتان.
ووفقا للقناتين فقد قال عاموس فى محاضرته «شعبة الاستخبارات العسكرية نجحت فى تصعيد الاضطراب والتوترات الاجتماعية والطائفية فى الأماكن التى يعملون فيها، بالأخص فى مصر؛ لقد أحدثت تل أبيب سلسلة من الاختراقات على الصعيد السياسى والاستخباراتى والاقتصادى فى عدد كبير من المواقع، وتفوقنا فى تأجيج حالات التوتر والاحتقان الطائفى ونظيره الاجتماعى لخلق بيئة متحاربة ومتوترة على الدوام ومنشطرة إلى أكثر من جزء، وذلك بهدف تجذير وتعميق حالة الانهيار داخل المجتمع فى مصر، ولكى يفشل أى نظام حكم فى فترة ما بعد مبارك فى التعامل مع الانقسام والتخلف والضعف المستشرى بالبلاد».
وجاء فى نص المحاضرة أيضا «تل أبيب لديها عديد من العملاء فى بعض الدول العربية وعلى رأسها مصر وسوريا واليمن والسودان علاوة على دول شمال إفريقيا". ويضيف : " أما في شمال إفريقيا، فقد تقدمنا إلى الأمام كثيراً في نشر شبكات جمع المعلومات في كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، والتي أصبح فيها كل شيء في متناول أيدينا، وهي قادرة على التأثير السلبي أو الإيجابي في مجمل أمور هذه البلاد ، في السياسة والاقتصاد أو حتى المشهد الاجتماعى ». كما جاء فى نص المحاضرة «مصر تقع فى المركز من أنشطة جهاز الاستخبارات العسكرية بالجيش الإسرائيلى، ولا تزال تشكل أحد أهم مسارح عملياته، لقد تطورت النشاطات الاستخباراتية فى القاهرة حسب البرامج الموضوعة منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام بين القاهرة وتل أبيب عام 1979.
لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي، لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائماً، ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسني مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر".
نعم ، أكيد أن هناك مخطط استعماري يستهدف الدولة القطرية بعدالاستعمارية ومنها بلدان شمال إفريقيا بالتفتيت والتمزيق وأكيد أن هذا الاستعمار الذي كان دوما جزءا من المشكل لا يمكن أبدا أن يكون جزءا من الحل فهو الذي استعمل الحاكمين لعقود تلت الاستقلال في قمع الشعوب ومصادرة الحريات وتعطيل الديمقراطية وفرض التماهي مع اختياراته الاقتصادية خدمة لمصالحه و مصالح شركاته المتعددة الجنسيات أو بتعبير أدق مصالح شركاته العبرقارية. وهو ما يؤكده أيضا اليوم عمليا من خلال تعامله الانتقائي مع الدول العربية والإسلامية و المحكوم بمصالحه ومصالحه فقط . حيث يدعم الأنظمة التي تضمن هذه المصالح ولو على حساب إرادة الشعوب ومطالبها العادلة وحتى ولو كانت هذه الأنظمة غارقة في الرجعية والريع والظلم وفي احتقار المرأة و مصادرة الحريات والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان انتهاكا جسيما وفي نفس الآن ينحاز إلى المعارضين للأنظمة التي يعتبرها مارقة أي تلك التي تتعارض مصالحها آنيا مع مصالحه أو قد تهدد مصالح حلفائه الإستراتيجيين خصوصا إسرائيل ولا يتردد عن دعمها سياسيا وإعلاميا وحتى عسكريا.
طبيعي أن يلعب الاستعمار على تناقضات كل ساحة عربية وإسلامية ولكن ما هو غير طبيعي أن نستمر في تعميق تناقضاتنا وخلافاتنا البينية ونعجز عن الاتفاقات والتوافقات التارخية بين مختلف الحساسيات الايديواوجية والعرقية والمذهبية في هذه المرحلة المفصلية لا بد أن نتساءل : إذا كان هناك اليوم وعي بهكذا مخطط من طرف كل الفاعلين على الساحات العربية والإسلامية ، حاكمين ومحكومين ، موالات ومعارضة ، فهل يرتقي أداؤهم وترتقي أجوبتهم كشعوب وأنظمة إلى مستوى التحديات والانتظارات التي تتطلبها هذه المرحلة المفصلية من تاريخ أمتنا بما يقوى لحمة وتماسك كل ساحة وطنية على حدة ويدعم وحدة الأوطان والمواطنين؟. أم إن العكس هو ما يحصل أي أن آداء هؤلاء الفاعلين يساهم بشكل كبير في انجاح مخططات الاستعمار والمتربصين بوحدة الدول العربية والإسلامية؟.
إن التاريخ مليئ بالدروس والعبر في نشأة الأمم والحضارات وبالدروس في انهيار الحضارات وتفتيت الدول وتشتيت شمل الشعوب. التاريخ مليئ بشهادات على شعوب وأمم لم تحسن التصرف إزاء مخططات أعدائها و جلست تتفرج عليهم وهم ينفذون برنامجهم التفتيتي التقسيمي بل ساعدتهم بصراعاتها البينية وبفشلها في حل المشاكل الداخلية وانتشار الظلم والفساد والاستبداد وتفشي العنف والاكراه حتى دب الوهن والهزيمة في النفوس مما ساعد على تكالب الأمم والدول الاستعمارية وأدى هذا الوهن إلى ضعف القرار والتماهي مع خطط الأعداء وربط المصير بما يقدمه الاستعمار من معونات ومساعدات وحماية للأنظمة والحماية للنخب المتماهية معه حاكمة كانت أو معارضة وأدى هذا في المحصلة إلى انفراط عقدها وهزيمتها الحضارية وذهاب ريحها .
المعتصم المصطفى