في ظل النقاشات الحادة بين مختلف الفاعلين السياسية في الساحة العربية، اختار المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية أن يكون موضوع محاضرته لهذا الشهر حول "نشأة وتطور فكرة الليبرالية بالمغرب".
استهل الأستاذ فريد لمريني أستاذ الفلسفة بكلية الآداب محمد الأول وجدة مداخلته بالتأكيد على أن التاريخ السياسي المغربي بالغ التعقيد، وأن تحليله يتطلب الأخذ بعين الاعتبار تعدد المستويات السياسية، الاقتصادية، الدينية، الثقافية وغيرها ذلك.
يندرج الحديث عن الليبرالية في المغرب - من وجهة نظر لمريني- في سياقين: أحدهما عام مرتبط بسؤال الحداثة في المغرب، والآخر خاص متصل بسؤال الحداثة السياسية بالتحديد.
للحديث عن الليبرالية يجب الأخذ بعين الاعتبار الإطارين اللذين تندرج فيهما وهما: إطار الفلسفة السياسية؛ أي الليبرالية كمفهوم سياسي فلسفي، وإطار السوسيولوجيا التاريخية والسياق الإيديولوجي الذي تطورت فيه فكرة الليبرالية.
إن الأمر يتعلق بالبحث عن مواقع وآثار الفكرة الليبرالية في المغرب وهو ما دفع الأستاذ إلى التركيز في مداخلته بالبحث عن الفكرة الليبرالية في المغرب لكونها ما زالت في طور البحث والمخاض بدل مفهوم الليبرالية الذي هو خلاصة لتشكل مجموعة من الأفكار عبر سيرورة تاريخية ما.
في هذا الصدد، يؤكد الأستاذ أن ليس هناك مفهوم دقيق لليبرالية في الحياة السياسية في المغرب، رغم أن هناك غليانا مجتمعيا ينم عن مطالب الليبرالية. والسؤال المطروح هو: لماذا لم يستطع هذا الغليان أن يتحول إلى خطاب ليبرالي قوي وواضح المعالم في الساحة المغربية؟
لمقاربة هذا الإشكال، يطرح الأستاذ فرضيتين بخصوص الكثافة الاصطلاحية للمفاهيم السياسية: أولا مسألة تأجيل الأسئلة السياسية، وثانيا مسألة عدم تهيكل المعرفة السياسية في المغرب، هذا ما أدى في نظر الأستاذ إلى غليان دون نتائج بخصوص مسألة الليبرالية.
يعد مفهوم الليبرالية أحد أهم المكتسبات الكبرى للعصر الحديث، وهو النتيجة القصوى التي توصل إليها الفكر السياسي الحديث، رغم أن هذا المفهوم مفهوم ماكر من حيث أنه لا يجسد ايديولوجيا معينة.
"أين يمكن أن نعثر عن فكرة الليبرالية في المغرب: هل في النصوص، هل في الأفكار أم في التحولات السياسية والاجتماعية للمغرب"؟ كان هذا السؤال الذي انطرح بقوة في مداخلة الأستاذ لمريني. ويطرح من وجهة نظره كلما طرحت علاقة المغرب بالحداثة، وقد حظي هذا التساؤل باهتمام كل من المؤرخ والسوسيولوجي والفيلسوف والسياسي.
ما هي الليبرالية إذن؟ إنها ليست منتجا فكريا ايديولوجيا عاديا، كما أنها ليست مرتبطة بمؤسسات سياسية. بل جاءت كتصور عام للعالم يسعى إلى تلخيص كل الثوابت والقيم التي تأسست عليها الثقافة السياسة الحديثة.
وفي هذا السياق يورد الأستاذ تعريفا للمفكر المغربي عبد الله العروي عن الليبرالية حيث يقول أن اليبرالية بالمفهوم الضيق مرتبطة بالحزب والمؤسسة، لكنها بالمفهوم الشامل هي النتيجة النهائية للثورات المتتالية التي يسميها المؤرخون بالحداثة.
والحديث عن حالة الليبرالية في المغرب مسألة صعبة صعب لعدة أسباب منها: ضرورة الإحاطة بالأصول التاريخية لهذه الفكرة في المغرب منذ بداية النصف الثاني من القرن 19، وكيفية دخول الحداثة للمغرب، إضافة إلى السير البطيء والتطور الضعيف بخصوص علاقة المغرب بالتحديث السياسي.
كما أن الفكرة الليبرالية في المغرب ليست خطابا مؤسساتيا، ولا يوجد خطاب ليبرالي تم تشييده واكتماله، لكن هناك ميولات وتطلعات وإيحاءات قد نجدها، في صيحة دستورية أو فتوى فقهية أو قرار سلطاني أو ظهير ملكي أو تطلعات مثقف.
إن فكرة الليبرالية في المغرب ملتبسة على المستوى المعرفي والثقافي والسوسيولوجي، لأنها لا تشكل تيارا سياسيا أو سيرورة في سياق إنجاز تحديث خاص بل هي فقط أوضاع سوسيولوجية هامشية هنا وهناك.
عند استقصاء تاريخي لتطور هذه الفكرة التي تندرج في إطار سؤال الحداثة، يلاحظ الأستاذ أن خيار التحديث في المغرب كان خيارا مفروضا ومرتبطا بالظاهرة الاستعمارية؛ فرغم أن سيرورة التحديث تختلف من مجتمع إلى آخر، إلا أنها في المجتمعات التي عرفت ما يعرف بالظاهرة الاستعمارية في بداية القرن 19 كانت واحدة وموحدة، أي وجود تيار مضاد للتحديث والحداثة.
ثمة عدة ملاحظات في هذا السياق:
- كون مهمة التحديث قادمة من الخارج،
- كون المخزن معطى تاريخيا متميزا بخصوص مسألة التحديث، وكيف أنه يظهر كمؤسسة في علاقته بالخارج وكيف أنه كان عائقا للتحديث،
- كون المخزن كدولة ليس وليد المرحلة الاستعمارية، بل كان متجذرا في التاريخ وكان نتاج بنيات دينية ثقافية واقتصادية معينة.
استرعى الأستاذ في هذا الإطار ظاهرتان: نسق المؤسسة المخزنية كمؤسسة دينية وثقافية، وكون المخزن ظل قويا ومحافظا رغم الاستعمار.
يعتبر الأستاذ لمريني أن محمد بن الحسن الوزاني كان أول ليبرالي مغربي، إلا أن هذه التسمية في نظره مرتبطة بالسياق التاريخي والسياسي الذي عاش فيه بن الحسن الوزاني، أي أنه ليبرالي ليس بمقاييس الليبرالية التي نعرفها اليوم، لكن بالنظرا لمعاصرين - وخاصة علال الفاسي- فقد كان أكثر تنورا وحرية.
تباينت العوامل التي ساهمت في إجهاض مشروع الليبرالية بالمغرب منها: قلة الكتابة السياسية ذات الطابع الفكري؛ وعدم استقلالية الفكر السياسي عن الفكر الفقهي؛ وحدود الإطلاع على الفكر المغربي الحديث؛ كما كانت هيمنة الفكرة السلفية الوهابية مما أثر في إنجاح الفكرة الليبرالية وتطورها اللاحق. كل هذا بالإضافة إلى عقلية مخزنية قرسطوية صلبة.
هذا وأكد الأستاذ أن العائق الأساسي في تطور فكرة الليبرالية في المغرب هو عدم استقلالية المجتمع عن الدولة، هذه الاستقلالية شيء أساسي في فرضية التحديث السياسي والعمق الفكري الليبرالي: أي التدبير العقلاني للمجتمع.
وأنهى حديثه بتحديد شروط الحداثة السياسية في ثلاث نقاط: فصل الدولة السياسية عن المجتمع المدني؛ فصل المجال العمومي عن المجال الخصوصي؛ فصل المواطنة التي ترتبط بالحقوق والواجبات عن الفردانية التي هي الغاية القصوى لفكرة الليبرالية، والتي تنبني على فكرة الحرية الفردية والإستقلالية.